فتى الادغال
لا أدري واللهِ من أينَ أبداُ ، أو كيفَ أبدأ ، فقد دارتْ بي
الأرضُ ، وحُمَّ جسدي ، وزادتْ عليَّ العلّةُ ، واستحكمَ المرضُ
، وغشيني من الهمِّ والغمِّ ما غشيني ، بعدَ أن سمعتُ خبراً لو
نزلَ وقعهُ على جبلٍ لتضعضعَ ، ولو مُزجَ في مُستعذبِ الأنهارِ
لأحالها كدراً ، ولو سمعَ بهِ أحدُ أسلافِنا من الرعيلِ الأوّلِ
لقضى ما بقيَ من عمرهِ ساجداً ، يحذرُ ذلكَ المصيرَ المشئومَ
ويرجو ربّهُ العافيةَ وحُسنَ الخاتمةِ .
وقعَ بتأريخِ 17/11/1424هـ في الساعةِ الثالثةِ وفي ثُلثِ الليلِ
الأخيرِ ، بمدينةِ الرياضِ ، لفتاةٍ في العشرينَ من عُمرِها
تُدعى س . ح ، واقعةٌ تُلينُ الصُمَّ الصِلابَ ، وذلكَ أنَّ تلكَ
الفتاةَ قد أخذتْ أُهبتها وازّينتْ ، وقامتْ تتهادى وتخطِرُ
أمامَ شاشةِ الحاسبِ الخاصِّ بها ، وتعرضُ ما دقَّ وجلَّ من
تفاصيلِ جسمها ، مُقابلَ مبلغٍ زهيدٍ من المالِ ، على حثالةٍ من
الذئبانِ البشريةِ وسقطةِ الخلقِ ، والتي لا تعرفُ معروفاً ولا
تنكرُ منكراً ، وتعيشُ على هامشِ الوجودِ ، في أحدِ مواخيرِ
البال توك العفنةِ .
وفجأةً في لحظةٍ عابرةٍ وغفلةٍ مُباغتةٍ وأمامَ مرأى الجميعِ
وتحتَ بصرهم ، سقطتْ تلك الفتاةُ مُمدّدةً على الأرضِ ، ووقعتِ
الواقعةُ ، وابتدأتْ قصّةُ النهايةِ ! .
لقد جاءها ملكُ الموتِ الذي وُكّلَ بها وهي تستعرضُ بمفاتِنها
وتُبدي عورتَها ، وقد سكرتْ بخمرِ الشيطانِ ، ولم تستيقظْ إلا
وهي في عسكرِ الموتى .
إنّها الآنَ ميّتةٌ بلا حولٍ ولا قوّةٍ .
لقد ماتتْ وكفى ! .
أصبحتْ جُثّةً هامدةً ، سكنَ منها كلُّ شيءٍ إلا الروحَ ، فقد
علتْ وعرجتْ إلى اللهِ تعالى ، ولا ندري ماذا كانَ جزاءها هناكَ
.
إنّها لحظةُ الوداعِ المُرعبةِ .
لم تُلقِ نظراتِ الوداعِ على أبيها وأمّها ، طمعاً في دعوةٍ منهم
نظيرَ برّها بهم ، ولم تلقِ نظرةَ الوداعِ على ورقةٍ من المصحفِ
الشريفِ ، ولم تكنْ لحظةَ وداعها ذكراً أو دعوةً أو خيراً ، بل
ليتها كانتْ لحظةً من لحظاتِ الدنيا العابرةِ ، تموتُ كما يموتُ
عامّةُ الخلقِ وأكثرُ البشرِ .
ليتها ماتتْ دهساً أو غرقاً أو حرقاً أو في هدمٍ .
ليتها كانتْ كذلكَ ، إذاً هانَ الأمرُ وسهل الخطبُ .
ولكنّها كانتْ ميتةً في لحظةِ إثمٍ ومعصيةٍ ، وليتها كانتْ
معصيةً مقصورةً عليها وقد أرختْ على نفسها سترَ البيتِ ، وأسدلتْ
حِجابَ الخلوةِ ، وانكفأتْ على ذاتِها ، وإنّما كانتْ على الملأ
تُغوي وتُطربُ ، وقد سكرتِ الأنفسُ برؤيةِ محاسنِها ، وأذيعتْ
خفيّاتُ الشهوةِ وأوقدَ لهيبُها .
ثُمَّ ماذا يا حسرة ! .
ماتتْ .
نعم ، ماتتْ .
لقد ولدتْ وربيتْ وعاشتْ لتموتَ .
سقطتْ وهي عاريةٌ ، وبعد لحظاتٍ يسيرةٍ صارتْ جيفةً قذرةً لا
يُساكُنها من المخلوقاتِ شيءٌ ، والعظامُ قد نخِرتْ والجلدُ عدا
عليهِ الدودُ ، وأمّا الروحُ فهي في يدِ ملائكةٍ غِلاظٍ شدادٍ ،
لا يعصونَ اللهَ ما أمرهم ويفعلونَ ما يؤمرونَ .
لقد ماتتْ ! .
ما أقوى أثرَ هذه الكلمةِ في النفوسِ ، واللهِ إنّها لتحرّكُ
منها ما لا يُحرّكهُ أقوى المشاهدِ إثارةً وتهييجاً .
لن تُسعفني جميعُ قواميسِ اللغةِ وكُتبِ البيانِ ، في تصويرِ
فظاعةِ وهولِ تلكَ اللحظةِ ، ولكنْ لفظاً واحداً قد يقومُ بتلكَ
المُهمّةِ خيرَ قيامٍ ، إنّهُ لفظُ : الموتِ ! .
أتدرونَ ما هو الموتُ ! ، إنّها الحقيقةُ الوحيدةُ التي نجعلُها
وهماً وخيالاً ، إنّهُ اليقينُ الذي لا شكَّ فيهِ ، والذي غدا مع
مرورِ الوقتِ شكّاً لا يقينَ فيهِ ، إنها اللحظةُ الحاسمةُ
والساعةُ القاصمةُ التي تُكشفُ فيها حِجابُ الحقيقةِ ، ويسطعُ
نورُ اليقينِ .
في غفلةٍ خاطفةٍ صارتْ من بناتِ الآخرةِ ، وارتحلتْ مُقبلةً إلى
ربّها ، تحملُ معها آخرَ لحظاتِ النشوةِ ، تلكَ التي أصبحتْ
ألماً وأسفاً وحسرةً ، في وقتٍ لا ينفعُ فيهِ الندمُ .
لقد جاءتْها سكرةُ الموتِ بالحقِّ ، وفاضتْ الرّوحِ إلى بارئها ،
وبدأتْ رحلةُ المعاناةِ والمشقّةِ ، بعدَ سنواتِ العبثِ والمجونِ
والضياعِ ، مضى وقتُ اللعبِ والأنسِ والطربِ ، وجاءَ وقتُ الجدِّ
والعناءِ والتعبِ ، ذهبتِ اللذةُ وبقيتِ الحسرةُ ، إنّها الآنَ
رهينةُ حفرةٌ مُظلمةٍ ، يُسكانُها الدودُ ويقتاتُ على محاسنها .
لقد سكتَ منها الصوتُ الحسنُ ، وأطفئتِ العينانِ الساحرتانِ ،
وسكنتِ الجوارحُ والأعضاءُ ، وبقيتِ الرّوحُ تُكابدُ وتُعاني ،
في رحلةٍ مُترعةٍ بالغربةِ والوحشةِ ، ليسَ فيها من أنيسٍ إلا
العملُ الصالحُ .
تلكَ الساعةُ المُرعبةُ واللحظةُ المخوفةُ ، التي خافها
الصالحونَ ، وعملوا من أجلها ، لحظةُ اليقينِ والنزعِ ، أمّلوا
أن تكونَ في سجدةٍ أو ركعةٍ ، أو في ثغرٍ من الثغورِ مرابطينَ ،
أو على تلٍّ أو في وادٍ شهداءَ مُكرمينَ ، وتأتي هذه الفتاةُ
لتأخذَ نصيبَها من السكراتِ والغمراتِ ، وهي في حالةٍ من
العُرْيِ والفُحشِ ، يستحي الإنسانُ حِكايةَ واقعِها فضلاً عن
ملابسةِ تفاصيلِها .
أفي ثُلثِ الليلِ الآخرِ ! ، وقد أخذتْ أصواتُ الديكةِ تعلو ،
مؤذنةً بدخولِ وقتِ النزولِ الربّانيِّ ، وهبَّ عبّادُ الليلِ
ورهبانهُ من مضاجعهِم ، وقصدوا إلى مواضيهم فغسّلوا وغسلوا ،
ثمَّ راحوا في خضوعٍ وتبتّلٍ يضرعونَ ويجأرونَ إلى اللهِ
بالدّعاءِ ، ويُسبلونَ دمعاً رقراقاً من محاجرهم خوفاً وطمعاً ،
يرجونَ رحمةَ اللهِ ويخشونَ عذابهُ .
هبّوا ولبّوا ، فملأ اللهُ وجوههم نوراً ، وصدورهم رهبةً
وحُبوراً ، وزادهم فضلاً ونعمةً .
إنّهُ وقتُ النّزولِ الربّاني ، إنّهُ وقتُ الرّحمةُ ، إنّها
ساعةُ الخشوعِ والخضوعِ والبكاءِ ، لا إلهَ إلا اللهُ ما أطيبها
وأرقّها وأحناها من ساعةٍ ، تخفقُ القلوبُ فيها بذكرِ اللهِ ،
وتهيمُ شوقاً إلى لقاءهِ ، وتميدُ الأجسادُ في محاريبِ العبادةِ
، فلا ترى إلا دمعاً هامياً ، وجبهةً مُتعفّرةً ساجدةً ، وركباً
تنوءُ بطولِ القيامِ والتهجّدِ .
يخلو فيها العارفُ فيناجي مولاهُ ، وترتعدُ فرائصهُ إذا تذكّرَ
خطاياهُ ، فلا يزالُ في استغفارٍ وندمٍ ، وتُشعلُ جوانحهُ قوارعُ
الألمِ ، يذكرُ فضلَ ربّهِ فيقرُّ ويهدأ ، ثُمَّ يذكرُ بأسهُ
فيفرقُ ويضطربُ .
ما أحلمَ اللهَ عنّا ونحنُ نبرزُ إليهِ في وقتِ نزولهِ بهذا
العُهرِ وذلكَ المجونِ ! .
سُبحانكَ ربّنا ما عبدناكَ حقَّ عبادتكَ .
إنَّ السماءَ تأطُّ وتُصرصرُ ، ما فيها موضعُ شبرٍ إلا وملكٌ
وضعَ جبهتهُ ساجداً للهِ ، وهو لا يرجو جزاءً أو حِساباً ، فكيفَ
يغفلُ عن الجزاءِ والحسابِ ، من تُدنيهِ أيامهُ ولحظاتهُ من
القبرِ كلَّ مرّةٍ ، ومع ذلك لا يذّكرُ أو يرعوي .
إنَّ الإنسانَ مهما بلغَ ما بلغَ من منازلَ في العبادةِ والصلاحِ
، لن يكونَ بمقدورهِ الصبرُ على نزعِ الرّوحِ وهولِ المطلعِ ،
ولا يُمكنهُ ذلكَ إلا بتيسيرِ اللهِ لهُ في خاتمةٍ حسنةٍ على
عملٍ صالحٍ ، وبملائكةِ الرحمةِ التي تُبشّرهُ بحُسنِ النّزلِ
وكرمِ المأوى ، ثُمَّ مع ذلكَ يُكابدُ السكراتِ والغمراتِ ،
وتخرجُ روحهُ من عصبهِ وعظمهِ ، ويجدُ وطأةَ ذلكَ تامّاً وافراً
، ثُمَّ تأتيهِ ضمّةُ القبرُ ، في مراحلَ من المحنةِ والشدّةِ ،
يُقاسيها الأنبياءُ على تقدّمهم في المنزلةِ ورفعتهم في المكانةِ
، فكيفَ يكونُ حالُ من ماتَ على خاتمةٍ تسودُّ منها الوجوهُ ،
وتشمئزُّ لها النّفوسُ ؟ .
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرّجيمِ : (( وأنيبوا إلى ربّكم
وأسلموا لهُ من قبلِ أن يأتيكمُ العذابُ ثُمَّ لا تُنصرونَ ،
واتّبعوا أحسنَ ما أُنزلُ من ربّكم من قِبلِ أن يأتيكم العذابُ
بغتةً وأنتم لا تشعرونَ ، أن تقولَ نفسٌ يا حسرتا على ما فرّطتُ
في جنبِ اللهِ وإن كنتُ لمن الساخرينَ ، أو تقولَ لو أنَّ اللهَ
هداني لكنتُ من المتّقينَ ، أو تقولَ حينَ ترى العذابَ لو أنَّ
لي كرّةً فأكونَ من المُحسنينَ )) .
اللهمَّ ارحمْ في الدّنيا غُربتنا ، وآنسْ في القبرِ وحشتنا ،
وارحمْ يومَ القيامةِ بينَ يديكَ موقفنا ، اللهمَّ أنتَ وليُّنا
في الدّنيا والآخرةِ ، توفّنا مُسلمينَ وألحقنا بالصالحينَ . |