الجلوس لـلتـعـزية ( بحث محـقــَّــق )

ضيف كتب "الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه .

أمــا بعـــد ،،،

فلقد قرأت ما سطره الكاتب ( قيس المبارك ) من كلام في مبحث ( الجلوس للتعـزية ) رأيته قـد جانب الحق فيما كـتـب ، ولم يستوعب كلام أهـل العلم فيما نقـلـَـهُ من الكــُـتب ، مع عدم ذكره لأي دليل ، و ترجيحه للرأي الذي يقـول بالـتحـلـيـل ، وتأييده له بدليل واحد ليس فيه أدنى إشارة للقائلين بالتحليل .

فأحببت أن أنبه إلى قصوره فيما ذكره من أقوال و ترجيح ، رغبة مني في بيان الحق بالدليل والبرهان الصحيح ، إذ أن هذا هو دأب أهل العلم والعرفان ، وهو إظهار الحق بأوضح عبارة وتبـيان ، مع الإلتزام بما كان عليه السلف ، والحذر من ما أحدثه الخلف ، فإن هذا هو سبيل النجاة و التوفيق ، وهذا أوان ذكر هذه المسألة والكلام فيها مع التحقيق .


اعلم أخي المسلم وفقني الله و إياك ، أن العلماء رحمهم الله تعالى تكلموا في حكم ( الجلوس لـلـتـعـزية ) منهم من تكلم كلاما عاما ، ومنهم من فصَّــل الكلام وجعله قسميـن ، قسم يخص ( أهل الميت ) وقسم آخر ( يخص القادمين للعـزاء ) من غـير أهل الميت ، و حتى يُفهم الكلام في هذه المسألة المهمة جدا لابد من تبـيـيـن ذلك من خلال الكلام في هاتين المسألتـيـن .

المسألة الأولى : اختلف العلماء في مسألة ( جلوس أهــل الميت للـتعـزية ) إلى عدة أقوال .

القول الأول : كراهية جلوس أهل الميت للتعـزية .

قال به : الشافعـية ، والرواية المنصوصة عن الإمام أحمد ، وقول في مذهب الإمام أبي حنيفة ، وقول كثير من أئمة المالكية .

قال الإمام الشافعي : ( وأكره المآتم وهي الجماعة - وإن لم يكن لهم بكاء - فإن ذلك يجدد الحزن ، ويـُكلف المؤنة ، مع ما مضى فيه من الأثر ) . ) ( 1 )
يقصد حديث - جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى .

وقال الشيرازي في المهـذب : ( ويكره الجلوس للتعزية ؛ لأن ذلك مُحدث والمحدث بدعة ) ( 2 )

وقال النووي في شرح المهذب : ( . وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي و المصنف وسائر الأصحاب على كراهته ، ونقله الشيخ أبو حامد في التعليق وآخرون عن نص الشافعي ، قالوا : يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية ، قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ، و لا فرق بين الرجال و النساء في كراهة الجلوس لها صرح به المحاملي ونقله عن نص الشافعي رحمه الله . ) ( 3 )

وقال السيوطي في شرح التـنبـيه : ( ويكره الجلوس لها - أي للتعـزية - بأن يجتمع أهـل الميت في بـيـت ويقـصدهـم ؛ لأنه بدعة . ) ( 4 )

وقال ابن عابدين الحنفي : ( قال في الإمداد : وقال كثير من متأخري أئمتنا : يكره الاجتماع عند صاحب البيت ، ويكره الجلوس في بيته حتى يأتي إليه من يعزي ، بل إذا فرغ و رجع الناس من الدفن فليتفرقوا و يشتغل الناس بأمورهم ، وصاحب البيت بأمره . ) ( 5 )

و قال الإمام أبو داود : ( قـلت لأحمد : أولياء الميـت يقعــدون في المسجد يُـعـزونَ ؟ قال : أما أنا فلا يُعـجـبـني . ) ( 6 )

وقال مجد الدين ابن تيمية الحنبلي : ( وتــُسن التعزية قبل الدفن وبعده ولا يجلس لها . ) ( 7 )

وقال المرداوي الحنبـلي : ( ويكره الجلوس لها ، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب ونص عليه ، قال في الفروع : اختاره الأكثر ، قال في مجمع البحرين : هذا اختيار أصحابنا . ( 8 )

وقال أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي : ( يُـكره الجلوس للتعـزية ، وقال ابن عـقـيـل : يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهـيـيجا للحزن . ( 9 )

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : ( قال علماؤنا المالكيون : التصدي للعزاء بدعة مكروهة ، فأما إن قعـد في بـيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء فلا بأس به ؛ فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر جلسَ في المسجد محزونا وعزاه الناس . ( 10 )

القول الثاني : جواز جلوس أهل الميت للـتـعـزية .

وقال به : الإمام أحمد في رواية عنه ، و قول لبعض الحنفية ، وقول لبعض المالكية .

نقل المرداوي عن الإمام أحمد : ( . الرخصة لأهل الميت فقط بالجلوس للتعزية ، نقله عنه حنبل و اختاره المجد . ( 8 )

وقال بدر الدين العيني الحنفي : ( وفي الميرغيناني : التعزية لصاحب المصيبة حَسنٌ ، فلا بأس بأن يجلسوا في البيت أو المسجد والناس يأتونهم و يعزونهم ) . ( 11 )

ونقل ابن عابدين الحنفي عن كتاب الظهيرية قوله : ( ولا بأس به – أي الجلوس للتعزية – لأهل الميت في البيت أو المسجد و الناس يأتونهم ويعزونهم . ( 5 )

وقال الحطاب المالكي : ( قال سند : ويجوز أن يجلس الرجل للتعـزية ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ( جلس النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يُعرفُ في وجهه الحزن . ) ( 12 )

استدل القائلون بجواز جلوس ( أهل الميت ) للتعزية بما يلي :

ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قــَـتـْـلُ ابن حارثة و جعفر وابن رواحة جلسَ يُعرفُ فيهِ الحُزنُ وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب ، فأتاه رجلٌ فقال : إن نساء جعفر – وذكر بكاءهن – فأمره أن ينهاهن فذهب ، ثم أتاه الثانية لم يطعنه ، فقال : إنهَـهُن ، فأتاه الثالثة قال : والله غلبنـنا يا رسول الله ، فزعـمَتْ أنه قال : فاحثُ في أفواههـن التراب ، فقـلتُ : أرغم الله أنفك ، لـَـمْ تـفعـلْ ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتركْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء )

أخرجه البخاري : كتاب الجـنائز : باب من جلس عـند المصيـبة يُعرف فـيه الحُـزن ( رقم 1299 )
ومسلم : كتاب الجنائز : باب التشديد في النياحة ( رقم 30 )
وأبو داود : كتاب الجـنائز : باب الجـلوس عـند المصيـبة ( رقم 3122 )
والنسائي : كتاب الجنائز : باب النهي عن البكاء على الميت ( رقم 1846 )

وأجاب المانعون من ( الجلوس ) من أن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن للتعـزية ، بدليل أن الحديث لم يشر إلا إلى جلوسه صلى الله عليه وسلم في مسجده حزينا ، ولم تذكر أنه جلس للتعزية .

قال الزين بن المنير : ( الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم و الشق و النوح و غيرها ، و لا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب ، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار و سكينة تظهر عليه مخايل الحزن ويؤذن بأن المصيبة عظيمة . ) ( 13 )


و قال ابن عابدين الحنفي : ( ويجاب عـنه بأن جلوسه صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصودا للتـعـزية . ) ( 5 )


/////////

المسألة الثانية : ( اجتماع الناس للتعزية عند أهل الميت والجلوس عندهم )

اعلم أن من العلماء من يفرق بين هذه المسألة و التي قبلها ، ومنهم من يجعل الكلام فيهما واحدا ويكتفي بالكلام على مسألة – جلوس أهل الميت – وذلك واضح فيما سبق .

القول الأول :
ذهب الإمام الشافعي ، و الحنفية في قول ، و الإمام أحمد في رواية عنه ، و المالكية في قول لهم إلى أن الجلوس للتعزية ( مكروه و بدعة منهي عنها ) .


وقد مرت أقوالهم فيما سبق ضمن المسألة الأولى ، و إذا كان جلوس ( أهل الميت للتعزية ) مكروها أو - بدعة - كما صرح به بعض الأئمة ، فمن باب أولي ( جلوس الناس للتعزية ) عند أهل الميت ، وهذا واضح بين

القول الثاني :
رواية عن الإمام أحمد ، وقول لبعض المالكية ، أن جلوس القادمين للتعـزية ( جائز ) لا بأس فيه .

قال المرداوي الحنبلي : ( قال الخلال : سهـَّـل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع . ) ( 8 )

وقال ابن عبدالبر المالكي : ( وأرجو أن يكون المتجالسة في ذلك خفيفا ) . ) ( 14 )

و الراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى القول الأول القائل ( بكراهة الجلوس إلى أهل الميت للتعـزية وأنه بدعة ومن أعمال الجاهلية )

والأدلـة على صحة هذا القول ما يلي :

الدليل الأول :
ما رواه جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : ( كــُـنا نـَعــدُّ الاجتماع إلى أهـل الميتِ ، وصنعة الطعام بعدَ دفنهِ من النـِّـياحة ) .

أخرجه الإمام أحمد : في مسنده ( 2 / 204 رقم 6902 ) .
وابن ماجه : كتاب الجنائز : باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام ( رقم 1612 ) بإسنادين .
وأسلم الواسطي : في تاريخ واسط ( ص 107 ) من قول عمر رضي الله عنه .
قال البوصيري في كتابه ( مصباح الزجاجة ) لزوائد ابـن ماجه : ( هذا إسناد صحيح الأول على شرط البخاري ، والثاني على شرط مسلم ) ( ص 236 ) تحقيق / محمد بن مختار بن حسين .

قال الإمام الشوكاني : ( يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة ؛ لما في ذلك من التـثـقـيـل عليهـم وشغـلهم مع ما هم فيه من شغـلة الخاطر بموت الميت ، وما فيه من مخالفة السنة ؛ لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفــوا ذلك وكلفـوهم صنعة الطعام لغـيهم . ) ( 15 )

وقال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البـنا : ( ويُستفاد من حديث جرير عدم جواز الاجتماع إلى أهل الميت كما يُـفـعـل الآن لأجل التعزية . ) ( 16 )

وقال الإمام الصنعاني : ( فيحمل حديث جرير على أن المراد صنعة أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم ، كما هو عُـرفُ بعض أهل الجهالات . ) ( 17 )

الدليل الثاني :
حينما وفد جرير بن عـبدالله البجـلي رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له : ( هل يُــناحُ على ميتكم ؟ قال : لا ، قال : فهل تجتمعـون عـند أهل الميت وتجعلون الطعام ؟ قال : نعم ، قال : ذلك النوح ) .

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف : كتاب الجنائز : باب ما قالوا الإطعام عليه و النياحة ( 3 / 175 ) .
أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، واللفظ له . كما في الفتح الرباني للشيخ أحمد البـنا ( 8 / 95 )

الدليل الثالث :
ما رواه عبدالرحمن بن مهران : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال حين حضرهُ الموتُ : ( لا تضربوا على فــُـسطاطاً ، و لا تــتبعـوني بمجمر ، وأسرعوا بي ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا وضع الرجلُ الصالح على سريره قال : قدموني قدموني ، و إذا وضعَ الرجل السوء على سريره قال : يا ويله أين تذهبون بي ؟ ) .

أخرجه الإمام أحمد : في مسنده ( 2 / 292 رقم 7896 ) .

قال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا معلقا على هذا الحديث الصحيح : ( وفيه أنه لا يجوز نصبَ فسطاط كالسرادق و الخيمة ونحو ذلك لأجل اجتماع الناس فيه للتعزية ، و لا اتباع الجنازة بنار فإن ذلك من عوائد الجهال و من لا دين لهم ومما نهى الشرع عنه وذم فاعله ، ومع ذلك فلا تزال هذه العادة باقية عند الناس إلى الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله . ) ( 18 )

وهنا ينبغي للمسلم أن يأخذ بالدليل ، ويتـق الله تعالى في ذلك ، ويلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الإمام العلامة ابن القيم : ( وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعـزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة . ) ( 19 )

وقد مرَّ معنا قول الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : ( قال علماؤنا المالكيون : التصدي للعزاء بدعة مكروهة ، فأما إن قعـد في بـيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء فلا بأس به ؛ فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر جلسَ في المسجد محزونا وعزاه الناس ) .

و مرَّ أيضا قول الإمام السيوطي في شرح التـنبـيه : ( ويكره الجلوس لها - أي للتعـزية - بأن يجتمع أهل الميت في بـيت ويقـصدهـم لأنه بدعة ) .

و أما قول القائل : ( أما ما نراه من جلوس المعزين لقراءة القرآن أو الاستماع إليه ، فلم نر من نص على كراهته ، بل الدليل يشير إلى ندبه ) .

فأقول قد مر معنا كلام الإمام ابن القيم ، وإليك نصا آخر كي تتأنى في كلامك قبل أن تتسرع في إصدار أحكامك .

قال الإمام محمد أمين بن عابدين : ( قلتُ : وهل تـنـفي الكراهة بالجلوس في المسجد و قراءة القرآن حتى إذا فرغوا قام ولي الميـت وعـزاهُ الناس كما يفعل في زماننا هذا ؟ الظاهر لا ؛ لكون الجلوس مقصودا للتـعزية لا للقراءة ، ولا سيما إذا كان هذا الاجتماع و الجلوس في المقبرة فوق القبور المدثورة . ) ( 3 )

وقال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البـنـا : ( فما يفعله الناس الآن من الاجتماع للتعـزية ، وذبح الذبائح ، وتهيئة الطعام ، ونصب الخيام ، والقماش المزخرف بالألوان ، وفرش البسط وغيرها ، وصرف الأموال الطــا ئلة في هذه الأمور المبتدعة التي لايقصدون بها إلا التـفـاخر و الرياء ليقول الناس فلان فعل كذا و كذا ، و أنفق كذا وكذا في مأتم أبيه مالا ، كله حرام مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من الصحابة و التابعين ، ولم يقل به أحد من أئمة الدين ، نسأل الله السلامة . ) ( 15 )

و لهذا قال الإمام النووي : ( وهذه الكراهة كراهة تنزيه إذا لم يكن معها مُحدث آخر ، فإن ضــُـمَّ إليها أمر آخر من البدع المحرمة - كما هو الغالب منها في العادة - كان ذلك حراما من أقبح المحرمات فإنه مُحدث ، وثبت في الحديث الصحيح : { إن كل كل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) ... أهـ ) ( 20 )
هذا ما تيسر لي جمعه مما توفر بمكـتبـتي من كــُتب أهـل العلم ، ولله الحمد و الفضل والمنة .

وأسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم و أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرزقنا كلمة الحق في الغضب و الرضى .

شبكة التاج الذهبى  .......  أحمد رشاد فتوى و أحكام

Free Web Hosting