الحمد لله
إن لطلب العلم جملة من الآداب ينبغي على من طلب العلم أن يتحلى بها
فإليك هذه الوصايا والآداب في طريق الطلب لعل الله أن ينفعك بها :
أولا : الصبر :
أيها الأخ الكريم .. إن طلب العلم من معالي الأمور ، والعلى لا تنال
إلا على جسر من التعب . قال أبو تمام مخاطبا نفسه :
ذريني أنال ما لا ينال
من العلى |
|
فصعب العلى في الصعب
والسهل في السهل |
تريدين إدراك المعالي
رخيـصة |
|
ولا بد دون الشهد من
إبر النحـــل |
وقال آخر :
دببت للمجد والساعون
قد بلغوا |
|
جهد النفوس وألقـوا
دونـه الأزرا |
وكابدوا المجد حتى مل
أكثرهم |
|
وعانق المجد من أوفى
ومن صبرا |
لا تحسبن المجد تمرا
أنت آكله |
|
لن تبلغ المجد حتى
تلعق الصـبرا |
(الصبردواء مر)
فاصبر وصابر ، فلئن كان الجهاد ساعة من صبر ، فصبر طالب العلم إلى
نهاية العمر . قال الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
واتقوا الله لعلكم تفلحون } [سورة آل عمران:200]
ثانيا : إخلاص العمل :
الزم الإخلاص في عملك ، وليكن قصدك وجه الله والدار الآخرة ، وإياك
والرياء ، وحب الظهور والاستعلاء على الأقران فقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : «
من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به
السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار
» رواه النسائي
(2654) وحسنه الألباني في صحيح النسائي .
وبالجملة : عليك بطهارة الظاهر والباطن من كل كبيرة وصغيرة .
ثالثا : العمل بالعلم :
اعلم بأن العمل بالعلم هو ثمرة العلم ، فمن علم ولم يعمل فقد أشبه
اليهود الذين مثلهم الله بأقبح مثل في كتابه فقال : {
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا
يهدي القوم الظالمين } [سورة الجمعة:5]
ومن عمل بلا علم فقد أشبه النصارى ، وهم الضالون المذكورون في سورة
الفاتحة .
رابعا : دوام المراقبة :
عليك بالتحلي بدوام المراقبة لله تعالى في السر والعلن ، سائرا إلى
ربك بين الخوف والرجاء ، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر ، فأقبل على
الله بكليتك ، وليمتلئ قلبك بمحبته ، ولسانك بذكره ، والاستبشار
والفرح والسرور بأحكامه وحكمه سبحانه .
وأكثر من دعاء الله في كل سجود ، أن يفتح عليك ، وأن يرزقك علما نافعا
، فإنك إن صدقت مع الله ، وفقك وأعانك ، وبلغك مبلغ العلماء الربانين
.
خامسا : اغتنام الأوقات :
أيها اللبيب ... " بادر شبابك ، وأوقات عمرك بالتحصيل ، ولا تغتر بخدع
التسويف والتأميل ، فإن كل ساعة تمضي من عمرك لا بدل لها ولا عوض عنها
، واقطع ما تقدر عليه من العلائق الشاغلة ، والعوائق المانعة عن تمام
الطلب وابذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل ؛ فإنها كقواطع الطريق ،
ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل ، والبعد عن الوطن ؛ لأن الفكرة
إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق ، وما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه ، وكذلك يقال العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك .
سادسا : تحذير !
إياك أن تشتغل في بداية الطلب بالاختلاف بين العلماء ، أو بين الناس
مطلقا ، فإنه يحير الذهن ، ويدهش العقل ، وكذلك الحذر من المصنفات ؛
فإنه يضيع زمانك ويفرق ذهنك ، بل أعط الكتاب الذي تقرؤه أو الفن الذي
تأخذه كليتك حتى تتقنه ، واحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير
موجب ؛ فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح . وعليك أن تعتني من كل علم
بالأهم فالأهم .
سابعا : الضبط والإتقان :
احرص على تصحيح ما تريد حفظه تصحيحا متقنا ؛ إما على شيخ أو على غيره
مما يعينك ، ثم احفظه حفظا محكما ثم أكثر من تكراره وتعاهده في أوقات
معينه يوميا ، لئلا تنسى ما حفظته .
ثامنا : مطالعة الكتب :
بعد أن تحفظ المختصرات وتتقنها مع شرحها وتضبط ما فيها من الإشكالات
والفوائد المهمات ، انتقل إلى بحث المبسوطات ، مع المطالعة الدائمة ،
وتعليق ما يمر بك من الفوائد النفيسة ، والمسائل الدقيقة ، والفروع
الغريبة ، وحل المشكلات ، والفروق بين أحكام المتشابهات ، من جميع
أنواع العلوم ، ولا تستقل بفائدة تسمعها ، أو قاعدة تضبطها ، بل بادر
إلى تعليقها وحفظها .
ولتكن همتك في طلب العلم عالية ؛ فلا تكتف بقليل العلم مع إمكان كثيره
، ولا تقنع من إرث الأنبياء صلوات الله عليهم بيسيره ، ولا تؤخر تحصيل
فائدة تمكنت منها ولا يشغلك الأمل والتسويف عنها ؛ فإن للتأخير آفات ،
ولأنك إذا حصلتها في الزمن الحاضر ؛ حصل في الزمن الثاني غيرها .
واغتنم وقت فراغك ونشاطك ، وزمن عافيتك ، وشرخ شبابك ، ونباهة خاطرك ،
وقلة شواغلك ، قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة .
وينبغي لك أن تعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنك ؛ لأنها آلة
التحصيل ، ولا تجعل تحصيلها وكثرتها (بدون فائدة) حظك من العلم ،
وجمعها نصيبك من الفهم ، بل عليك أن تستفيد منها بقدر استطاعتك .
تاسعا : اختيار الصاحب:
احرص على اتخاذ صاحب صالح في حاله ، كثير الاشتغال بالعلم ، جيد الطبع
، يعينك على تحصيل مقاصدك ، ويساعدك على تكميل فوائدك ، وينشطك على
زيادة الطلب ،ويخفف عنك الضجر والنصب ، موثوقا بدينه وأمانته ومكارم
أخلاقه ، ويكون ناصحا لله غير لاعب ولا لاه ." انظر تذكرة السامع لابن
جماعة .
" وإياك وقرين السوء ؛ فإن العرق دساس ، والطبيعة نقالة ، والطباع
سراقة ، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض ، فاحذر
معاشرة من كان كذلك فإنه المرض ، والدفع أسهل من الرفع .
عاشرا وأخيرا : التأدب مع الشيخ :
بما أن العلم لا يؤخذ ابتداء من الكتب ، بل لابد من شيخ تتقن عليه
مفاتيح الطلب ، لتأمن من الزلل ، فعليك إذا بالأدب معه ، فإن ذلك
عنوان الفلاح والنجاح ، والتحصيل والتوفيق . فليكن شيخك محل إجلال منك
وإكرام وتقدير وتلطف ، فخذ بمجامع الأدب مع شيخك في جلوسك معه ،
والتحدث إليه ، وحسن السؤال ، والاستماع ، وحسن الأدب في تصفح الكتاب
أمامه ، وترك التطاول والمماراة أمامه ، وعدم التقدم عليه بكلام أو
مسير أو إكثار الكلام عنده ، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك ،
أو الإلحاح عليه في جواب ، متجنبا الإكثار من السؤال لا سيما مع شهود
الملأ ؛ فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل ، ولا تناديه باسمه مجردا ،
أو مع لقبه بل قل : " يا شيخي ، أو يا شيخنا " .
وإذا بدا لك خطأ من الشيخ ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك ، فإنه سبب
لحرمانك من علمه ، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالما ." . انظر حلية
طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد .
نسأل الله لنا ولك التوفيق والثبات ، وأن يرينا اليوم الذي تكون فيه
عالما من علماء المسلمين ، مرجعا في دين الله ، إماما من أئمة المتقين
، آمين .. آمين .. وإلى لقاء قريب ، والسلام .