الكذب رأس الخطايا
الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
الكذب رأس الخطايا
الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلا الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر
الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة الكرام:
الذنوب تعظم وتصغر، أعني منها كبائر وصغائر، وقد بينا في الخطبة السابقة بعض هذه
الكبائر كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الشرك بالله، وقتل الولد
مخافة أن يطعم مع أبيه، وكذلك قال النبي: [وأن تزاني حليلة جارك] (أخرجه البخاري
(8/163 الفتح)، ومسلم (86)).
وفي سياق معرفة كبائر الذنوب وصغارها، نبدأ بذنب من أعظم الذنوب وهو الكذب، وذلك
أنه رأس الخطايا جميعاً، كما أن الصدق هو رأس الهدى، كما ثبت من حديث ابن مسعود
في الصحيحين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الصدق يهدي إلى
البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند
الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى
النار، وما يزال الرجل يكذب يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً] (أخرجه
البخاري (8/163 الفتح)، ومسلم (2606)).
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبين فيه أن الصدق هو
رأس كل خلق حسن، وهو الذي يهدي صاحبه إلى كل بر، وإلى كل توفيق، وإذا وفق للبر
فلا شك أن طريق البر هو طريق الجنة، وكذلك الكذب هو رأس الخطايا وهو بدايتها وهو
الذي يهدي إلى كل فجور، والفجور لا شك أنه طريق النار.
الكذب كلمة كبيرة معروفة تشمل عناصر كثيرة، ولا شك أن المعصية بالكذب أو هذه
الكبيرة تكبر يعظم نوع الكذب، وقد يكون صغيرة.
فمتى يكون الكذب كبيرة عظيمة من الكبائر؟ ومتى يكون صغيرة من الصغائر؟.
يعظم الكذب إذا كان كذباً على الله سبحانه وتعالى، هذا أعظم الكذب.
قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} (الأنعام:21).
فأعظم الذنوب هي افتراء الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو من اتباع خطوات
الشيطان، كما قال تبارك وتعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة:168،169).
أعظم الكذب على الله ادعاء النبوة، هذا أعظم كذب على الله تبارك وتعالى، من ادعى
نبوة فلا شك أنه من أعظم المفترين والكاذبين على الله تبارك وتعالى، ولذلك كان
الأنبياء الكذابون هم أعظم الناس عذاباً عند الله تبارك وتعالى، ولذلك برأ الله
تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء الصادقين بأنه لم يكونوا
ليقترفوا هذا الإثم العظيم، وهو من أعظم الذنوب، والمعلوم أن محمداً صلى الله
عليه وسلم، والأنبياء الصالحين كانوا من أتقى الناس ومن أخوف الناس، وكانوا
يتورعون من الكذب على الخلق، فكيف يقتحمون الكذب على الله سبحانه وتعالى.
من الكذب على الله أن تقول أحل الله تبارك وتعالى كذا ولم يحلل هذا، وحرم الله
تبارك وتعالى كذا ولم يحرم هذا، وقد عنف الله تبارك وتعالى الكفار في ادعائهم ما
شرّعوه لأنفسهم أنه من عند الله تبارك وتعالى.
فقال جل وعلا: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا
على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب
أليم} (النحل:116،117).
هنا لام الله تبارك وتعالى المشركين في أنهم كانوا يحلون ويحرمون بأهوائهم،
ويقولون: هذا ما أحله الله وهذا ما حرمه الله تبارك وتعالى، ولذلك أصل المسلمون
أصلاً عظيماً في أنه لا يجوز لمسلم أن يقول إن الله أحل كذا أو حرم كذا إلا أن
يكون الله تبارك وتعالى قد نص على تحليل هذا الأمر، ولا شك أن إثم المحرم كإثم
المحل، بعض الناس يتهاون في التحريم، وذلك في زعمه منعاً وحماية لجانب الدين،
وقد يتورع في التحليل في أن يحل شيئاً وهو حرام عند الله تبارك وتعالى، لكنه قد
يقحم نفسه في أن يحرم ما لم ينص الله تبارك وتعالى على تحريمه، ولا شك أن
التحريم والتحليل سواء، فلا تُحرِّم ولا تُحلِّلْ، ولا تقل حرم الله كذا وأحل
كذا إلا أن يكون عندك نص وبرهان من الله تبارك وتعالى، فإذا نص الله عز وجل على
أن هذا شيء حلال فأحله، وإذا نص على أنه حرام فحرمه، وإذا لم يوجد فيه نص لا
بتحليل ولا بتحريم، فهذا ينظر فيه أهل العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
[الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس،
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه..] (أخرجه البخاري (52 الفتح)، ومسلم
(1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما).
في الحديث فقرة وهي: [لا يعلمها كثير من الناس].
فكثير من النسا قد يشتبه عليه ما ليس فيه نص من كتاب الله، ومن سنة النبي، فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم المتورع أن يترك ما يظن فيه بأساً خوفاً من أن يكون
فيه بأس، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم من يدخل في الشبهات في الأمر المشتبه
الذي قد يكون حلالاً، وقد يكون حراماً لا نص فيه، حذر النبي من الاقتحام فيه كمن
يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، لكن لا يجوز لمسلم أن يقول في الأمر المشتبه إن
الله حرمه أو إن الله أحله هكذا بصريح العبارة، وإنما ينبغي أن يقول هو يشبه
الحلال، أو هو يشبه الحرام كما قرر هذا في موضعه من أصول الفقه، أنه لا يجوز
الافتراء على الله تبارك وتعالى بأن تقول أحل الله هذا الأمر، أو حرم هذا الأمر،
وليس في هذا نص من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً ينبغي للمؤمن بإزاء الله تبارك وتعالى بإزاء شرع الله عز وجل ألا يتقول على
الله، إياك والتقول على الله تبارك وتعالى، وأن تقول على الله عز وجل مقتحماً
الكذب، فإذا كنت تتعمد هذا، فلا شك أن فاعل هذا كافر خارج من دين الإسلام، أما
إذا كان هذا بجهل فإن هذا من اتباع خطوات الشيطان كما قال الله تبارك وتعالى:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه
لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}
(البقرة:168،169).
فهذه الآية أصل عند علماء الأصول في أن الأصل في الأشياء الحل، إلا ما حرمه الله
تبارك وتعالى، الأصل في الأشياء الحل لأن الله يقول: {يا أيها الناس كلوا مما في
الأرض حلالاً طيباً}.
الذي في الأرض كله كلوه حلالاً طيباً، ثم بين أن المحرم مفصل وأن الحلال متروك
كما قال تبارك وتعالى: {وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}
(الأنعام:119).
فالحرام مفصل والحلال ما سوى ذلك، ولذلك الأصل في الأشياء الحل، كما أخذ بذلك
علماء الأصول فقالوا: الأصل في الأشياء هي الحل، والتحريم استثناء، والتحريم
لابد أن يكون بنص، فإذاً لا تُقْحِمْ نفسك في أن تقول حرم الله تبارك وتعالى كذا
وليس عندك دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
احذر أن تتقول على الله تبارك وتعالى بغير علم، إذا تعمد متعمدٌ هذا وقال: حرم
الله تبارك وتعالى هذا وهو يعلم أن الله لم يحرمه، فهذا كافر خارجٌ من دين
الإسلام متقول على الله تبارك وتعالى أما إذا ظن واجتهد في زعمه ونسب هذا
التحريم إلى الله تبارك وتعالى، وليس على بينة منه، فهذا لا شك أنه كذلك لا يجوز
وهو من اتباع خطوات الشيطان، بل يجب على المؤمن أن يتورع ويقول: أظن هذا.
ربما يكون هذا أشبه بالحرام.
وربما يقاس هذا على الحرام الفلاني.
وربما من هذا الباب، وذلك أن هذه الأمور الاجتهادية إنما هي أمور ظنية وليست
بقطعية، القطعي هو المنصوص عليه، وأما الاجتهادي فهو ظني، أرجو أن يفهم هذا
الكلام حق الفهم، وأن يدرك.
الاجتهادي ظني كل أمر اجتهادي فهو ظني لأن الاجتهاد إنما هو ظن بحكم شرعي، وأما
الأمور القطعية فهي ما نص الله تبارك وتعالى عليها، أو نص عليه رسوله صلوات الله
وسلامه عليه أو أجمعت عليها أمة الإسلام، هذا هو القطعي، هذه هي الأمور القطعية،
وما سوى ذلك من أمور اجتهادية فهي أمور ظنية يصيب فيها المجتهد ويخطئ ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم
واجتهد فأخطأ فله أجر واحد] (متفق عليه) فلما كان المجتهد يصيب ويخطئ كان أمراً
ظنياً، وليس أمراً يقينياً ولا قطعياً.
هذه واحدة.
أيضاً من الكذب العظيم الكذب على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك أن النبي
في مقام المشرع بشرع عن الله تبارك وتعالى، باعتباره مُفوضاً وكل كلام النبي
تشريع صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن منزلة كلامه من الأخذ والعمل كمنزلة
كلام الله تبارك وتعالى سواء بسواء في العمل يعني يجب أن نعمل بكلام النبي كما
نعمل بكلام الله سبحانه وتعالى.
كما قال سبحانه وتعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء:80).
فطاعة النبي هي طاعة لله سبحانه وتعالى، لأن النبي لا ينطق من عند هواه، وإنما
يقول عن الله تبارك وتعالى ويتكلم عن الله عز وجل، لذلك كان الكذب على النبي هو
الكذب على الله تبارك وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في
الصحيحين، بل هو حديث متواتر روي من وجوه كثيرة جداً: [من كذب عليَّ متعمداً
فليتبوأ مقعده من النار] (انظر صحيح الجامع الصغير (6519)).
فمن كذب على النبي متعمداً، فلا شك أنه -يعني- قد تبوأ مقعدة من النار، وهذا لا
خلاف في كفره وخروجه من دين الإسلام إذا تعمد الكذب على النبي وقال يقول النبي
كذا، وهو يعلم أن النبي لم يقله، أو نهى النبي عن كذا، أو أمر بكذا ولم يقله
رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ولم ينه عنه، فلا شك أن هذا مرتكب كبيرة من
الكبائر تخرجه من دين الإسلام عياذاً بالله، كذلك الأمر لا يجوز أن نقول كما
يقول كثير من الجهلة في أمر حادث أمر جديد لو كان النبي موجوداً لأحل هذا أو
لحرم هذا أو لقال في هذا الأمر الفلاني كذا، وما يدريك؟ وما يدريك أن النبي لو
كان موجوداً لقال ما تقول واجتهد كما تجتهد؟ وفعل كما تفعل؟ هذا من الكذب على
النبي صلوات الله وسلامه عليه وإنما يجب أن تقول في أي أمر لم يقله النبي أمر
اجتهادي تقول الظن في هذا الأمر اجتهد في هذا الأمر ورأيي هو كذا وكذا، لا أعلم
فيه سنة عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان حال الصحابة عندما يسألون عن
حكم لا يعلمون فيه سنة للنبي صلى الله عليه وسلم يقولوا: "لا نعلم فيه سنة وإنما
أقول فيه برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان".
إذاً لا تقحم النبي في أمر اجتهادي، وتقول لو كان موجوداً في هذا الأمر لحكم
بكذا ولقضى بكذا وما يدريك؟ وما يدريك أن يكون الحكم على خلاف ذلك، بل قل هذا
حكمي وهذا ظني وهذا اجتهادي ولا أنسبه إلى الله ولا أنسبه إلى رسوله صلوات الله
وسلامه عليه، إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، تعمد الكذب
على النبي كفر، والخطأ في هذا كبيرة، والتقحم في هذا ونسبه الأمر إلى النبي لا
شك أنه من الكبائر لا تقحم النبي صلوات الله وسلامه عليه في أمر تجتهد به أنت
وتراه أنت لأن الأمر قد يكون على خلاف ذلك.
ثم بعد ذلك يأتي الكذب على المؤمنين.
الكذب على عباد الله تبارك وتعالى، ولا شك أن الكذب على عباد الله عز وجل كذلك
يتفاوت، فأعظم الكذب على عباد الله أن تكفر مؤمناً وأنت كاذب أن تقول: قال كذا
فكفر به، وأنت تعمل أنه لم يقله وهذا كفر بالله تبارك وتعالى وخروج من الدين كما
قال صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما] (أخرجه
مالك (984) والبخاري (10/514 الفتح).
علماً أن هذا قد يكون في غضب، وقد يكون في سب، أما إذا كان في هدوء ولم يكن في
سب أو تقول وكان في نقل أنت تعلم أنه كذب فلا شك أنك تكفر بها: [من كفر مسلماً
فقد كفر] إذا كفرت مسلماً وأنت تكذب عليه وتنقل عنه ما لم يقل، وتقول ما لم يقل،
وتقوله ما لم يقل، أو تلزمه بلازم قوله ولا يلتزم هذا اللازم ولا يقول به وتكفره
بذلك لا شك إنك تكفر وتخرج من دين الله تبارك وتعالى، لأن من ادعى في مؤمن بأنه
كافر وليس كما قال إلا حار عليه، وكذلك إذا اتهمته بما يلعن به أو يفسق به أو
يبدع به وليس كذلك فأنت أحرى بهذا الوصف يرجع عليك كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم: [إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء
دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان
لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها] (أخرجه أبو داود (4/277) وحسنه الألباني انظر
الصحيحة (1269)).
إذاً الافتراء على المؤمنين منه كبائر عظيمة، ومن هذه الفرى اتهامهم بالزنا، وقد
نص الله تبارك وتعالى على أن هذا كبيرة عظيمة توجب عقوبات ثلاث كما قال تبارك
وتعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (النور:4).
ثلاث عقوبات لمن قال عن مؤمنة، أو محصنة أنها زانية، أو أنها بغي، أو أنها بنت
زنا، أو إن أمها كذا، أو نحو ذلك كله، إذا اتهمت مسلمة محصنة بالزنا، فلا شك أنه
إما أن يكون صدقاً أو لا يكون صدقاً إلا بأن يأتي الرامي بأربعة شهداء يشهدون
هذا كما قال تبارك وتعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور:4).
يعني حتى وإن كان صادقاً فهو كاذب، إذا تلكم ولا يملك بأن يأتي بأربعة شهداء،
قال تبارك وتعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم
الفاسقون إلا الذين تابوا..} (النور:4).
فهؤلاء لا شك أنه إجماعاً رمي المحصنين كرمي المحصنات، أعني أن من رمى مؤمناً
محصناً ذكراً فكذلك حكمه حكم من رمى محصنة، الآية نصت على المحصنات ولكنها لم
تذكر المحصنين، ولا شك أن الحكم واحد، إجماعاً ولا فرق بين المسلمين بتاتاً أقول
ولا خلاف بين أهل الإسلام جميعاً أن من رمى رجلاً كمن رمى امرأة، من رمى رجلاً
مؤمناً محصناً كمن رمى امرأة محصنة، فالرمي بالزنا كبيرة من الكبائر إن لم يأت
صاحبه بأربعة شهداء يشهدون هذا، وإلا كان عقوبته ثلاث عقوبات كما نص الله بتارك
وتعالى، الجلد، وأن ترد شهادة أبداً ولا تقبل منه لا على عقد زواج ولا على عقد
بيع، ولا عقد تجارة ولا على أي عقد بتاتاً، ثم يكون فاسقاً عند المؤمنين يظل
بهذا، ثم قال الله تبارك وتعالى: {إلا الذين تابوا}، والبعض يرى أن هذا
الاستثناء راجع إلى الفسق فقط، والبعض يرى من الفقهاء أنه راجع إلى الأمرين إلى
قبول الشهادة، وإلى انتهاء الفسق، وأما الحد، فواجب إذا وصل إلى السلطان، ولا
يسقط بالتوبة إذا وصل إلى السلطان ولا يسقط بالشفاعة يعني لا يجوز الشفاعة فيه
لأنه حد من حدود الله تبارك وتعالى، بعكس حدود القصاص قد تسقط بالشفاعة إذا
قبلها أولياء الدم، وقد تسقط بالتنازل من أولياء الدم أنفسهم، أما حد القذف وحد
السرقة والحدود الأخرى غير القصاص فإنها حدود من حقوق الله تبارك وتعالى لا تسقط
لا بشفاعة ولا بتنازل أي إن تنازل صاحب الحق الذي سب المسبوب ذهب للحاكم، وقال
له: تنازلت عن من سبني، لا يسقط الحد لابد أن يحد لأن هذا من حقوق الله سبحانه
وتعالى، وهذا بعكس القصاص، الشاهد أن الافتراء على مسلم برميه بأنه ابن زنا أو
هو زان أو من هذا السبيل فهذا لا شك أنه كبيرة من الكبائر، وقد قال تبارك
وتعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة}
(النور:23).
لعنهم الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وكذلك قد أعد لهم عذاباً عظيماً.
كذلك من الكبائر الكذب على أهل الإيمان أن تكذب عليهم بما يوجب حداً غير القذف،
فإذا كذبت على مؤمن بأنه قاتل، وليس كذلك، وأنه سارق وليس كذلك، وأنه خائن وليس
كذلك لا شك أن هذا كله من الفرى وأنت محاسب على ذلك بين يدي الله تبارك وتعالى،
أما إذا لم يوجب حداً وكان نوعاً من الفرية فهو كبيرة من الكبائر والدليل على
ذلك أن الغيبة يعدها بعض العلماء كبيرة علماً أنها صدق، وأما الكذب بهتان أكبر
من هذا كما نهى النبي عن الغيبة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أتدرون ما
الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: [ذكرك أخاك بما يكره]، قيل: أفرأيت إن
كان في أخي ما أقول؟ قال: [إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما
تقول فقد بهته] (أخرجه مسلم (2589)).
فالذي نتكلم عنه إنما هو البهتان، فإذا كانت الغيبة وهي صدق من الكبائر، فكيف
بالبهتان لا شك أنه من أكبر الكبائر، وأقول الغيبة من الكبائر لقول الله تبارك
وتعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه
واتقوا الله إن الله تواب رحيم} (الحجرات:12).
لذلك عدّ بعض علماء المسلمين الغيبة من الكبائر علماً أن الغيبة صدق، أما
البهتان فهو من أعظم الكبائر على المسلم، ومن أعظم الكبائر التي ترتكب، وهي
تتفاوت كما ذكرنا، فإن كان الكاذب كذب عليه في أنه كفر ولم يكفر فهو كافر، أو
بهته بما يستحق اللعن أو يستحق الحد، فلا شك أنه الأليق بهذا، إذاً الكذب
يتفاوت، ولا شك أن الكذب قد يكون منه صغائر وهو الكذب في المزاح ونحو ذلك من
الأمور التي يعلم الناس إنها كذب، فهذه صغائر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عنها علماً أنه توعد على بعضها كما جاء في الحديث: [ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك
به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له] (أخرجه أحمد (5/3،5،7) وأبو داود والترمذي (2315)
وقال: هذا حديث حسن).
فمجرد الإضحاك وإن كان أمر من الكذب، وهذا قد لا يكون فيه ضرر ما ولا أذية بمسلم
معين وإنما أراد أن يضحك الناس بشيء لا يتعلق بمسلم معين.. وإنما يذكر مثلاً أو
نكتة من النكات لا تتعلق بشخص ما هذه لا شك إنها قد تكون من الصغائر لكنها كذلك
لا شك إنها مما يوجب الحذر لأنها كذلك من جملة الكذب.
على كل حال الكذب رأس الخطايا والإنسان الكذاب لا شك أن فيه رأس كل بلية وكل
بلية تتأتى بعد ذلك من هذا الكذب وممكن للإنسان أن يتدرج فيبدأ بالكذب على الناس
ثم يكذب على الرسول يريد أن يؤكدها لأن الكذاب يكذب كذبة ثم يريد أن يؤيد كذبته
فيكذب كذبة ثانية، ثم يريد أن يؤيدها فيكذب كذبة ثالثة، ثم يريد أن يؤيدها فيكذب
كذبة رابعة، وهكذا، وقد يتدرج به الكذب فيبدأ بالكذب على الناس، ثم يأتي بالكذب
على الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك يتدرج إلى الكذب على الله تبارك
وتعالى، وقد يؤوِّل آيات الله عز وجل على غير معانيها ويحملها على غير معانيها
ويعلم أن هذا التأويل كذب، فيكون كاذباً على الله تبارك وتعالى، ومتقولاً على
الله عز وجل.
لذلك أقول مرة ثانية حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه: [وإن الكذب يهدي إلى
الفجور].
بداية الذنب كذبة، تبدأ بكذبة إذا لم ترجع عنها وتستغفر الله تبارك وتعالى وتتوب
ممكن يستدرجك الشيطان إلى كذبة ثانية ثم يستدرجك إلى رابعة تبدأ بالكذب على
الناس ثم تنتهي بعد ذلك بالكذب على الله تبارك وتعالى، وهذا الحال دائماً.
الحال دائماً في الذنوب تبدأ هكذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في السارق:
[لعن الله السارق، يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده] (أخرجه
البخاري ومسلم).
قيل معنى الحديث أنه يبدأ بسرقة الأمور الصغيرة ثم يتدرج به الأمر حتى يسرق
الأمور الكبيرة فتقطع يده بالسرقة لأنه لا سرقة في أقل من ربع دينار، وهكذا
الكذاب، يبدأ بالكذبات الصغيرة متهاوناً فيها حتى يصل به الشيطان بالكذب على
الله سبحانه وتعالى.
إخواني:
الكذب مذمة ومنغصة عظيمة، والمسلم هو الصادق كما قال تبارك وتعالى: {يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (التوبة:119).
ينبغي أن تكون صادقاً، والإيمان الحق أن تقول الصدق ولو يضرك، ولا تقل الكذب ولو
ينفعك.
|