دروس في التوحيد
الدرس الثاني
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد،وعلى آله الطيبين
الطاهرين وأصحابه الأوفياء الكرماء الميامين،ومن اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى
يوم الدين.
أما بعد:ه
فإن علم التوحيد أشرف العلوم وأجلها قدرًا،وأوجبها مطلبًا لأنه العلم بالله
تعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه على عباده،ولأنه مفتاح الطريق إلى الله
تعالى،وأساس شرائعه،ولذا اجتمعت الرسل على الدعوة إليه،قال تعالى:"وما أرسلنا من
قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"(الأنبياء/35).ه
ولما كان هذا شأن التوحيد كان واجبًا على كل مسلم أن يعتني به تعلمًا وتعليمًا
واعتقادًا وعملاً ليبني دينه على أساس سليم وطريق قويم يسعد بثمراته ونتائجه في
الدنيا والآخرة،فالعقيدة الإسلامية هي قوام المجتمع المسلم الذي لا يمكن أن يكون
له بناء بدونها،ولا شك أن منهج أهل السنة والجماعة في فهم العقيدة الإسلامية هو
المنهج الصحيح الذي يجب السير عليه والعمل بمقتضاه في كل زمان ومكان لمن أراد أن
يسلك سبيل النجاة والفلاح،لأن أعداء الإسلام والمسلمين قد بذلوا كل ما يستطيعون
لإبعاد المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم السليمة كي يستطيعوا تحقيق أغراضهم
الفاسدة.
والإنسان لا يستطيع أن يعيش في سكينة وطمأنينة،إلا إذا استجابت نفسه لنداء
الفطرة،قال تعالى:"فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس
عليها"(الروم/30)،فطرة لا يملؤها علم ولا ثقافة ولا فلسفة،فطرة لا يملؤها
مال،ولا جاه،ولا سلطان،إنما يملؤها حقيقة ثابتة،هي الإيمان بالله وحده.ه
وإذا لم تهتد النفس البشرية إلى خالقها،ظلت متوترة حائرة،لا تعرف لها وجهة،ولا
تشعر بمعنى الإستقرار،ولا تجد النفس سعادتها إلا في الاهتداء إلى الله
وحده،والإيمان به، والإلتجاء إليه،فتشعر بالأمن والسكينة،ويتملَّكها الإحساس
بالرضا والطمأنينة،فتتجه إلى خالقها،تفرده بالعبادة وحده دون سواه،تطيعه فيما
أمر،وتبتعد عما نهى عنه وزجر،وتتقرب إليه بالطاعات،ومن أعظم هذه الطاعات
والقربات إفراده جل وعلا بالعبادة فهو الأساس الذي خلق الله من أجله
الثقلين،وبعث من أجله الرسل،وأنزل من أجله الكتب والآيات في ذلك كثيرة
قال سبحانه:"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"(الذاريات/56).ه
وقال سبحانه:"ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا
الطاغوت"(النحل/36) .ه
وقال جل وعلا:"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"(الإسراء/23).ه
وقال جل وعلا:"واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً"(النساء/36) .
وقال سبحانه:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً"
(الأنعام/151).
وقال سبحانه:"وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة
يُعبدون" (الزخرف/45)،إلى غير ذلك من الآيات الدَّالات على أنه سبحانه خلق الخلق
ليعبدوه وحده،
وأمرهم بذلك،وأرسل الرسل لهذا الأمر ليدعوا إليه،وليوضحوه للناس.ه
والعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:"هي طاعة الله،بامتثال ما أمر
الله به على ألسنة الرسل.وقال أيضًا:العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله
ويرضاه،من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.ه
ولما كان الله جل وعلا وحده الذي يستحق العبادة وأن لا يُشرك معه غيره،أمرنا
باجتناب الطاغوت،والطاغوت:هو كل ما يُعبد من دون الله،وهو كما عَّرفه ابن القيم
رحمه الله:ما تجاوز به العبد حدَّه من متبوع أو معبود أو مطاع. ه
فالمتبوع:مثل الكُهَّان والسحرة،وعلماء السوء.ه
والمعبود:مثل الأصنام.ه
والمطاع:مثل الأمراء الخارجين عن طاعة الله-عز وجل- وذلك لأن الإنسان إذا أحل ما
حرَّم الله بسبب تحليلهم له أو حرَّم ما أحل الله بسبب تحريمهم له فقد اتخذهم
أربابًا من دون الله .ه
والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:ه
1-الإثبات 2-النفي.ه
ولو نظرنا إلى هذه الآيات لوجدنا فيها الأمر الصريح بإفراد الله-عز
وجل-بالعبادة،ونبذ الشرك واجتناب كل ما يوصِّل إليه.ه
والعبادة تنقسم إلى أقسام ثلاثة هي:ه
1-عبودية عامة،وهي عبودية الربربية،وهي لكل الخلق،قال تعالى:"إن كل من في
السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا"(مريم/93).ويدخل في ذلك الكفار.ه
2-عبودية خاصة،وهي عبودية الطاعة العامة،قال تعالى:"وعباد الرحمن الذين يمشون
على الأرض هونا"(الفرقان/63)،وهذه تعم كل من تعبَّد لله بشرعه.ه
3-عبودية خاصة الخاصة،وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام،قال تعالى عن نوح:"
إنه كان عبدًا شكورا"(الإسراء/3)،وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم:"وإن كنتم في
ريب مما نزلنا على عبدنا"(البقرة/23)،وقال في آخرين من الرسل:"واذكر عبادنا
ابراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار"(ص/46)،فهذه العبودية المضافة إلى
الرسل خاصة الخاصة، لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.ه
والأحاديث أيضًا كثيرة فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه،قال:كنت رديف النبي صلى
الله عليه وسلم على حمار،فقال لي:"يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد،وما حق
العباد على الله "؟قلت:الله ورسوله أعلم،قال:"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا"، قلت يا
رسول الله،أفلا أبشر الناس؟قال:"لا تبشرهم فيتكلوا"(متفق عليه).ه
(وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنه قال:قيل يا رسول الله:من أسعد الناس بشفاعتك
يوم القيامة؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا
يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك،لما رأيت من حرصك على الحديث،أسعد الناس
بشفاعتي يوم القيامة من قال:لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه)(رواه
البخاري).ه
وعن عوف بن مالك الأشجعي-رضي الله عنه-أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"أتاني آتٍ من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين
الشفاعة،فاخترت الشفاعة،وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)(رواه الترمزي
والحاكم)).ه
وعن أبي مالك عن أبيه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من قال:لا
إله إلا الله،وكفر بما يعبد من دون الله،حرم ماله ودمه وحسابه على الله)(رواه
مسلم).ه
وعن جابر-رضي الله عنه-أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال:يا رسول الله:ما
الموجبتان؟قال:"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة،ومن مات يشرك بالله دخل
النار)(رواه مسلم).ه
قال ابن تيمية-رحمه الله-:إن التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولي
وعملي،فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص "قل هو الله أحد"،والتوحيد العملي"قل يا
أيها الكافرون"،ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في
ركعتي الفجر،وركعتي الطواف قوله تعالى:"قولوا أمنا بالله وما أنزل
إلينا"(البقرة/136)،وفي الركعة الثانية بقوله تعالى:"قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا
بعضا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"(آل عمران/64)،
فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام، وفيهما الإيمان القولي والعملي،فقوله
تعالى"قولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط"إلى آخرها(البقرة/136)، يتضمن الإيمان القولي والإسلام.وقوله"قل
يا أهل الكتاب تعالوا…"الآية إلى آخرها
(آل عمران/64) يتضمن الإسلام والإيمان العملي،فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده
الإسلام والإيمان وهما في هاتين الآيتين.ه
وقال ابن القيم-رحمه الله تعالى- "لا ريب أن أهل التوحيد يتفاوتون في توحيدهم
علمًا ومعرفة وحالاً-تفاوتًا لا يحصيه إلا الله فاكمل الناس توحيد الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم،والمرسلون منهم أكمل في ذلك.وأولو العزم من الرسل أكمل
توحيداً .. وأكمل أولي العزم الخليلان:محمد وإبراهيم-صلوات الله وسلامه
عليهما،إذ قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علمًا ومعرفة وحالاً،ودعوة
للخلق وجهاداً.ولما كان أكمل التوحيد توحيد الأنبياء أمر الله نبيه أن يقتدي بهم
فيه كما قال سبحانه-بعد ذكر إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة
التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته-"أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن
يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين*أولئك الذين هدى الله
فبهداهم اقتده"(الأنعام/90:89).ه
فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أن يقتدي بهم.ه
وقال ابن القيم أيضًا في قوله تعالى:"إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال
لا ينال عهدي الظالمين"أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك،ولهذا أوصى نبيه
محمدًا-صلى الله عليه وسلم-أن يتبع ملة ابراهيم،وكان يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن
يقولوا:"أصبحنا على فطرة الإسلام،وكلمة الإخلاص،ودين نبينا محمد-صلى الله عليه
وسلم-وملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين،فملة إبراهيم
التوحيد، ودين محمد:ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقادًا. وكلمة
الإخلاص:هي شهادة أن لا إله إلا الله،وفطرة الإسلام:هي ما فطر الله عليه عباده
من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً
وإنابةً.ه
وفي ذلك قال ابن القيم-رحمه الله تعالى:ه
حـق الإلــه عبادةً بالأمر لا بهوى النفوس فذاك للشيطان
من غير إشـراكٍ به شيئًا هما سبب النجاة فحبذا السـببان
لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت بـه الأصلان
والناس بعد فمشركٍ بإلهــه أو ذو ابتداعٍ أو له الوصفان
وقال بعض الشعراء:ه
فيـا عجبًا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجــاحد؟
وفـي كـل شـئ لـه أيـة تـدل على أنـه الواحـد
من فوائد التوحيد
1-التوحيد أعظم أسباب انشراح الصدر لأنه أعظم درجات التأدب مع الله عز وجل.ه
2-من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.ه
3-يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل،وأنه إذا
كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.ه
4-بالتوحيد تُغفر الذنوب وتُكفر السيئات.ه
5-هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة .ه
6-يُحترز به من الشيطان.ه
7-يدفع شر الحاسدين.ه
8-الموحدون يشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم.ه
9-المُوحِّدون يَشْفَعون بإذن الله لذويهم يوم القيامة مما يدل على عظيم مكانتهم
عند الله.ه
10-يحصل لصاحبه الهدى والكمال والأمن التام في الدنيا والآخرة.ه
11-السبب الأساسي لنيل رضا الله وثوابه.ه
12-أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي
ترتيب الثواب عليها على التوحيد.ه
13-أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات،ويسليه عن المصيبات.ه
14-بالتوحيد يَحْرُم مال الموحد ودمه.ه
15-إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر
والفسوق والعصيان.ه
16-أنه يخفف عن العبد المكاره،ويهون عليه الآلام،وذلك لعلمه أن ما أصابه من عند
الله وهو خير له.ه
17-يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم،وهذا
هو العز الحقيقي والشرف العالي.ه
18-إذا تحقق تحققًا كاملاً تضاعف به الأعمال.ه
19-تكفل الله لأهله بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية
والتيسير لليسر وإصلاح الأحوال.ه
20-يدفع الله تعالى عن الموحدين شرور الدنيا والآخرة،ويمن عليهم بالحياة الطيبة
والطمأنينة بذكره.ه
21-التوحيد الخالص يدفع الرياء والغل وغيرهما من كبائر الباطن.ه
22-الصلاة والصدقة من الأبناء لا تنفع سوى الموحدين.ه
وبعد ما ذكرنا من أمر التوحيد،فإنه يجب على كل مسلم أن يجعل العناية به أعظم
عناية،لأنه متى سلم صار ما بعده تابعًا له،ومتى لم يوجد التوحيد لم ينفع المكلف
ما حصَّل من أعمال وأقوال،قال تعالى:"ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا
يعملون"(الأنعام/88)،وقال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً ا
منثورا"(الفرقان/23)،وقال سبحانه :"ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت
ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين"(الزمر/65).ه
هذا وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن
تبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين.ه
بقلم/علي حسين الفيلكاوي
|